معركة الأسعار: فاصل ونعود!
طوال العقود الماضية. لم يخل عهد من حديث عن الأسعار، والدخول معها في مواجهة أو معركة فاصلة للسيطرة عليها، ومضي الرؤساء والوزراء وبقيت رايات الأسعار مرتفعة، لا تكف عن التحليق في آفاق لا نهاية لها، تلسع الجميع، وتكوي جيوبهم، وتبدد مدخراتهم، وتبخر احلامهم، ولم يبق من المعارك ذكر أو أثر
نحن مقبلون الآن علي معركة أسعار جديدة، فقد أعلنت الدولة أن مواجهة وشيكة ستبدأ معها الأول من الشهر المقبل، ستنتقل بموجبها الأسواق من الانفلات للانضباط، ومن الارتفاع للانخفاض، ومن العشوائية للنظام، وتنزل الأسعار الجديدة بردا وسلاما علي جيوب المواطنين والمستهلكين لم يكن إعلان الدولة عن المعركة مصحوبا بإيضاحات كافية عن كيفية الدخول في المعركة وحدودها وأهدافها التكتيكية والاستراتيجية وأدوات ضرب الأسعار ونشر الانضباط، فنحن مثلا لم نعرف طبيعة الأسعار التي سيتم مواجهتها، هل هي أسعار السلع الغذائية الخام التي تأتي من المزارع للأسواق كما هي، كالخضر والفاكهة واللحوم الطازجة وخلافه، أم السلع الغذائية المصنعة ونصف المصنعة، أم هي السلع الصناعية التي تمر دورة إنتاجها عبر مصانع انتاج السلع والمنتجات الوسيطة ثم السلع والمنتجات النهائية تامة الصنع وصولا للمستهلك، أم أسعار الخدمات المقدمة من الحكومة والقطاع العام والقطاع الخاص للجمهور، في مجالات الصحة والتعليم وخلافه، أم أسعار الضرائب والرسوم والجمارك وأشكال الجباية المختلفة بغض النظر عن نوعية الأسعار التي اتخذتها الدولة هدفا لضرباتها في المعركة المرتقبة، فمن غير الواضح ايضا طبيعة أدوات الضرب والمواجهة، وإذا حاولنا التخمين لقلنا إن الدولة ـ عبر إحدي مؤسساتها ـ ستطرح سلعا ومنتجات جديدة بأسعار أقل وكميات وفيرة ومواصفات جودة مرتفعة، وفي هذه الحالة ينفتح باب النصر في المعركة لكي يكون هذا التخمين واقعيا فإن الجهة التي ستقدم السلع بالأسواق، لابد وأن تكون قد انتهت من بناء وتشغيل وصيانة وضبط جهاز إنتاجي قوي وواسع النطاق، قادر علي الوصول للأسواق بسلع ومنتجات وافرة الكمية عالية الجودة منخفضة السعر، وإذا كان المسار منصبا علي السلع الغذائية الخام المباشرة، فلابد وأن تكون هناك مزارع بمساحات تقدر بمئات الآلاف من الافدنة قد انشئت، وجهزت لهذا الغرض، ومئات المصانع لخدمة انتاج المزارع ولو علي مستوي الثلاجات والتبريد والحفظ، ناهيك عن التصنيع ولو كان الأمر منصبا علي ضرب حلقات الوسطاء والوصول بالسلعة من المنتج إلي المستهلك مباشرة، فلابد وأن نظاما محكما للتوزيع قد جري التخطيط له وإنشاؤه وضبطه واختباره في طول البلاد وعرضها، وأن إجراءات حاسمة وشرسة قد أصبحت جاهزة لاستيعاب واحتواء ما يفترض أن ينشأ عن هذا النظام من اضطرابات وعقبات، يخلفها تضارب المصالح بين الآلاف من اصحاب حلقات السمسرة والتوزيع والقومسيونجية وغيرهم من أركان نظام التوزيع الحالي المتغلغلين في كل شبر من البلاد، وبين ما يفرضه النظام الجديد من واقع مختلف يضرب مصالحهم في مقتل ولو كان الأمر متعلقا باستيراد سلع ومنتجات من الخارج فلابد أن موارد ضخمة بالعملة الصعبة قد جري تدبيرها من موارد حقيقية بعيدا عن الاقتراض أو فرض ضرائب واعباء جديدة، ومنظومة إدارية لوجيستية جديدة قد أنشئت لإدارة التفاوض وعقد الصفقات والاستيراد والتخزين والتوزيع حين تبدأ الدولة الإعداد لمعركة ـ أي معركة ـ يحتم الواجب الوطني ألا نسيء بها الظن، لذلك نحن نراهن علي القليل الذي ورد بشأن معركة الأسعار خلال الأيام الماضية، ولا ننزعج مما يبدو غامضا أو غير واضح، ونعتبر أننا علي موعد معها أول الشهر المقبل، ونجهز أنفسنا لما ستشهده من أحداث، فهي بالأساس من أجل «جيوبنا» من منطلق الواجب الوطني. فإن ما يقلقنا ليس الغموض المتعلق بالنقاط السابقة أو غيرها، ولكن المقلق أنه بمجرد أن اصطدمنا بالأمطار والطائرة الروسية وجليطة كاميرون في لندن وما تلاها من تداعيات، تركنا الحديث عن المعركة علي طريقة «فاصل ونعود»، لكن الفاصل امتد واتسع حتي أصبح الفاصل هو «موضوع الحلقة» الرئيسي، وألقي بمعركة الأسعار في عمق الركن البعيد المظلم، وبدا المشهد وكأن المعركة باتت أثرا، حتي قبل أن تصبح «عينا»، والمدهش أن ذلك كله حدث في ذروة حماس الدولة عن المعركة، وفي ذروة اشتياقنا ولهفتنا علي معرفة أي من خطط وأدوات المعركة التي تنتظرها جيوبنا قبل عقولنا